كانت امّه العجوز الصماء في يوم القرّ هذا تضع العجين الناصع البياض فوق طاجين الطين و دخان الحطب يتصاعد من الكانون إلى وجهها و هي تسعل بقوّة. كلّما نضجت الكسرة من جهة قلّبتها على الجهة الأخرى بيدين ناشفتين صلبتين. لم يستطع الصهد ان يهب وجه هذه المرأة الحمرة كما في الماضي السحيق بل على العكس فقد تغضن أكثر فاكثر. لقد اصبحت أقرب إلى كومة من القش منها إلى الكائن الحي. لم تلحظ الأم أن ولدها الوحيد لا يزال وراءها يتأمل كلّ هذا ككلّ مرّة، متكئا على العمود الخشبي وسط الدار المكونة أساسا من غرفة واحدة. السقف الذي كان مجدولا من الطين و القش كان دانيا و البلل واضح فيه إذ لا تزال قطرات الماء تنز منه. لقد تهاطل الثلج لأيّام عدّة و لم يخرج الفتى المعزات و الحمار من الزريبة جنب الدار بعد . بل وزّع عليها هذا الصباح بعض التبن و الشعير. ثم ها هو يقف ينظر إلى هذه المرأة الطاعنة في السن و هي تقرفص لتخبز لهما : هو و أبوه.
دخل الأب الآن غاضبا و هو يسب و يشتم ملّة ولده. سكتت الأم و رمقته في هدوء. راح الأب يسخط عليهما معا كعادته. شتمه لأنّه لم يخرج لرعي المعزات بعد. لقد أطلت الشمس منذ حين و هو لا يزال هنا في البيت ينتظر " الطاجين" كالعزباء. كفر عليه حتى شبع. ثم خرج. كان الفتى الذي لم يعرف في حياته غير الجبل مطرقا طوال الوقت ، تشدّ يدّه على العصا بقوّة و عصبية.
فجأة خرج إثر أبيه. غاب عدة لحظات ثم عاد إلى عمود الخشب. راح ينظر إلى أمه الغارقة وسط دخان الكانون . غير أن يده لا كانت لا تزال ترتجف و عصاه تقطر دما.