لازمت سريرها لساعات طوال كما جرتِ العادة؛ تضغط بأطراف أناملها الرخوة المنتهية بأظافر طويلة بغير عناية علـــى أزرار هاتفها الذكي؛ لعلها تجد من بين برامجه ما يسليها و يٶنس وحدتها و يكسر رتابة الإنتظار.
ترفع بين الحين و الآخر خصلات حريرية غزاها بياض أسفر علـــى أنوثة باهرة رغم ثنيات الزمن و هالات سوداء تحت عينيها شكلتها الأحزان.
فمنذ ما يقارب العشرين عاما و هي علـــى تلك الحال ؛تسند روحها المتعبة علـــى جدار الإنتظار....
إنتظار ذلك الزوج الذي سافر بداعي العمل خارج الديار وفق عرضٍ مغرٍ لا يحتمل التأجيل.
قررت وقتها أن تنتظره و تنتظره و تلتمس لغيابه الأعذار مهما بلغت منها غربة النفس .
حتّى أنّها صارت ترى في الغياب روحا خفيّة تحتضن
ضعفها وتمسح دمعها و تَعِدها بروعة لقاء سيجمعهما لا محالة تحت لحظة سعيدة ؛تلون حياتها البائسة
و تشرح اختناق نفسها من مرارة البكاء والوحدة،
و تبدد ثقل الظّلمة الّتي تكاد تأتي على مجامع قلبها.
هكذا تحيا حياتها؛تطوي الوقت تحت جناح اللّيل؛تلتحف بٶسها و تباشر النهار؛تستدعي القهوة لتٶنس روحها الوحيدة و تقرأ علـــى جنبات الفنجان بشارة عودته
ليجمع شتات عالمها ويعيد إليها روحها المعلّقة في غيابه.
خفق قلبها من شدّة وطأة الزّمن الضائع و هو يمرّ بطيئا عليها؛ تقهقرت بها الذاكرة إلى الوراء فتذكرت ذلك المساء حين أقبل عليها ليلقي تحية المساء ويسألها سؤالاً ثلجياً متكرراً يومياً عن صحتها التي أخذت منحــى التدهور بعد إصابتها بالورم الخبيث الذي قرر الأطباء أن لا مناص من إنقاذ حياتها إلا ببتر رمز أنوثتها و سر انجذاب زوجها لها.
لقد مات رجل حياتها بموت أنوثتها ولم يبقى منه غير جسد متعب، متداع، يشتعل غضبا أحيانا ليرميها بأقسى الكلمات وأكثرها مرارة ثم سرعان ما يخمد غضبه و يستسمحها مبررا فعلته بكثرة الضغوطات علـــى عاتقه؛مما يلين قلبها فترفض أن تقابل ثورته بثورة تدافع بها عن كرامتها الجريحة و تكتفي بالإستسلام و الخنوع للأذى.... كيف لا و هو رجل حياتها أو هكذا تظن.
تذكرت جيدا حين ألقــى سؤاله المعتاد ثم قراره المفاجئ ثم هرول مسرعاً ملبياً نداء هاجس الهروب من عينيها المعاتبتين و قد غطاهما غبار الدمع؛ تاركا إياها تسبح في أفكارها؛ تصارع آلامها بمفردها؛
و شعور يكابد وسط صدرها يريد أن يتفجر و يصرخ أن :أحتاجك ؛إبق بجانبي.
لكن ثمة ثقل غريب يطبق على صدرها؛يكبل أطرافها الثقيلة التي لا حيلة لها لترتفع و تحتضن قربه؛فتموت الصرخة في أعماقها و لا صوت يتجاوز الشفاه.
إحتضنت حينها آلامها و لجمت صرختها و أبت إلا أن تجعلها في طي الكتمان و امتثلت لطعنة نفسٍ تَحتَضِر؛لقبضة الحياة تضرب بين كتفيها بعنف فاعتادت عليها عشرون عاما أو يزيد.
عبست للذكرى الصماء بتفاصيلها؛
ثمّ ارتدّت إلى لحظة الانتظار الّتي تعيشها.
و التي أعادتهـا إلى عالم الواقع؛ ثم فركت عينيها الدامعتين براحة كفيها و كأن بها تزيح سواد السنين الذي اغترفته لترمي به جانبا؛رغبة منها في كسر القاعدة هذه المرة و هي واثقة من نفسها وكلها قوة وإصرار... ستخرج من باب يفضي إلى الحياة... ستتحرر من لعنة الذكريات وصمت الحواس....هكذا كان قرارها.
أحكمت معطفها حولها ذات صباح شتوي و انتعلت حذاءها و تأبطت مظلتها مرددة بسيل من الهذيان:ماذا جنيت من الإنتظار غير غربة النفس؟
ألا يحق لي أن أحيا بقية عمري كعامة الناس؟
ألا يحق لقلبي أن تغازله السعادة؟
-أنظري...راحت تخاطب نفسها من خلال المرآة و هي تعكس لمحة منها: أنظري كيف هرمت قبل الأوان
و كيف استباحت الهالات السوداء أسفل عينيك.
-ألازلت تعتقدين أن الذي استثناك يوما عن نساء العالم سيعود إليك؟
أفٍ لكِ و لما تصوره لكِ أوهامك....يالغباءك!!
أخرجي؛هيا أخرجي عسى الفضاء الخارجي يغسل أحزانك و يعالج كآبتك ...هكذا حدثتها نفسها.
تخطت عتبة منزلها منتشية إلى الخارج و كلها أمل في أن تغير من صباحاتها الكئيبة مصممة أن تكمل الطريق لآخره.
إشتد الطقس برودة في الخارج و مع ذلك فضلت السير علـــى الأقدام علها تبعثر آلامها و تسحقها تحت خطواتها.
انتبهت لهمهمة خلفها و هي تسير؛فتنحت جانبا دون أن تلتفت لمصدر الصوت؛ ليستبق هو خطواتها و يناولها شيئاً من أغراضها سقط منها دون أن تنتبه و هي تلتقط من محفظة النقود قدرا من المال لتتصدق به علـــى متسول بَانَ لها علـــى مرأى العين.
و بلكنة مهذبة ألقـى السلام:صباح النور سيدتي؛هذا لك؛....بطاقتك الشخصية...تفضلي سيدتي.
تفرس ملامح و جهها لثوانٍ ثم أضاف:تبدين أجمل من الصورة بكثير.
إحتقنت وجنتيها و سرتها مجاملته التي قبلتها بصدر رحب و ابتسامة مغتصبة و قدِ انعقد لسانها عن الكلام فاكتفت بإماءة برأسها أن شكرا لك و عيناها لا تزالان مثبتتان في عينيه و كأنهما وجدتا السلوى في تلك النظرات الحنونة.
كان رجلا بعمر الخمسين تقريبا؛ بلحية مهذبة وشعر لامع تدلــى علـــى رقبته؛أرجعه خلف أذنيه لتزيد أناقته قبعة افرنجية متناسقة مع بدلة من أغنــى الماركات الباريسية.
اختبأت عيناه الغامقتي السواد خلف نظارة طبية
و بنظرات ثاقبة مثبتة علـــى صفحة وجهها استطاع قراءة معاناتها و لاحظ الحزن المتلألأ في عينيها و هو ينزلق ليغرقهمها و يحجب عنهما جمال الحياة.
أشاحت بوجهها عنه هاربة من تساٶلاته؛ موغلة في الإحباط والصمت والرجل لا يرفع عيناه عنها؛سألها بحنان متداخل بين الكلمات:لما كل هذا الحزن في هاتين العينين الجميلتين؟
باغتها سٶاله فشردت و فيض من الدمع انسكب دفعة واحدة أغرق وجنتيها و كأن سٶاله حرك شيئاً راكدا في أعماقها فأجابته و هي تهم بالانصراف تجر خطاها: هل تدرك سيدي معنى الحياة بلا أمل؟ هل تشعر بما تشعر به إمرأة عاشت حياة بلا ربيع؟
سارع الرجل و قد احتار كيف يكفكف دمعها و يدفع الحزن عنها فترجاها أن تغفر سٶاله المستفز لها
و هو يسعفها بمناديل ورقية كانت بحوزته ليمسح دمعها المتدفق بصمت ؛ثم أمسك يديها المرتعشتين بين دفء كفيه و نظر طويلا في عينيها و قال:ما كان لي أن أجرح مشاعرك الرقيقة دون قصد؛ أرجو أن تقبلي اعتذاري سيدتي.
وشيئا فشيئا خمدت تلك العواصف في روحها،
و أطرقت قائلة:بإمكانك أن تمسح دموعي لكن أبدا لن تمسح مساحات الآهات بداخلي.
آلمه حديثها المليء باليتم والغربة،فاجتاحته رغبة في احتضانها لينسيها مرارة الحزن وكل ما علق بها من لحظات قاسية مرت بها؛لكنه اكتفــى بمواساتها بحديثه العذب الذي بدل مزاجها شيئاً فشيئاً و أذاقها ألوانًا من الإنتشاء؛فإبتسمت بفتور و هي تعترف بصنيعه الذي خفف وطأة أحزانها و قالت:شكرا لأنك مسحت دموعي؛فغيرك نسي أن يمسحها منذ عشرين عاما أو يزيد.
ثم أردفت: أتعلم شيئاً سيدي ؛ليتنا التقينا في زمن غير هذا الزمن.
أكملت جملتها مودعة لكن ترجاها أن تشاركه نخب الصدفة التي جمعتهما وقال لها مشيرا إلى مقهى قريب أن هناك سنوقع أروع لقاء إنتظره كلانا....كل بطريقته.
رفضت دعوته المحرجة بدعوى أن لا شيئ يربطهما؛لكن توسلات عينيه كانت لها تأثير عليها وسرعان ما سحب يدها دون أن تنتبه و انطلق بها نحو المقهــى ...هناك أين شعرت بالحميمية لكل ما حولها و تمنت أن لا تنتهي تلك اللحظات أبدا.
توالت السويعات و القلب الذي شارف علـــى الخريف قد ِانتظم خفقانه و تسارع نبضه من جديد و استعاد السعادة التي بهتت طوال عشرين سنة.
لكن كان و لا بد للستار أن يسدل علـــى آخر مشهد لقصة خرافية لا تصلح حتّى أن تكون خيالا كما بدت لها و لطبول اليقظة أن تدق لتنتشلها من غفلة عاشتها وآمنت بها ؛فاعتزمت الإياب بعد أن افترقا علـــى أمل أن تتشرنق داخل عالمها الخاص الذي صنعته لنفسها عشرون عاما أو يزيد.
عادت إلى بيتها؛دخلت غرفة نومها و استلقت علـــى سريرها وأغمضت جفنيها على آخر ما كان في خيالها ونبض قلبها يتسارع؛و استسلمت لقرار واحد لا قرار غيره أن لا راحة لها سوى لذكرى ذلك الغائب عنها ؛ تعيش علـــى صمتها بأمل قادم تشعره.