مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ بِمَا يُحَقِّقُ لِلْعِبَادِ مَصَالِحَهُمُ الدِّينِيَّةَ وَالدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ؛ فَأَوْجَبَ عَلَى بَعْضِهِمْ تِجَاهَ بَعْضٍ حُقُوقًا يَحْصُلُ بِهَا الْوِئَامُ وَالتَّآخِي؛ اسْتِجَابَةً لِنِدَاءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الحجرات:10].
وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْمَعْنَى الْعَظِيمَ؛ فَقَالَ: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"، وَيَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".
عِبَادَ اللهِ: وَلِضَمَانِ تَحَقُّقِ مَبْدَأِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ لِلْمُسْلِمِ حُقُوقًا عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَأَمَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحُقُوقِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَرْعَاهَا لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَقَالَ: "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَتَجَلَّى حُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يَلِي:
رَدُّ السَّلَامِ عَلَيْهِ عِنْدَ لِقَائِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحَقُّقِ الْأُلْفَةِ وَحُصُولِ الْمَحَبَّةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: "لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنَ الْحُقُوقِ: عِيَادَتُهُ إِذَا مَرِضَ؛ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ حَقٌّ مَفْرُوضٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ: "وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ"، وَلِأَنَّ أَحَبَّ عَمَلٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ مَا افْتَرَضَهُ عَلَيْهِ، وَوَعَدَهُ اللهُ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ؛ "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا غُدْوَةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنْ عَادَهُ عَشِيَّةً إِلاَّ صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَانَ لَهُ خَرِيفٌ فِي الجَنَّةِ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ).
وَمِنَ الْحُقُوقِ: اتِّبَاعُ جَنَازَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم؛ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا-: "وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ"، وَحَتَّى يَقُومَ الْمُسْلِمُ بِهَذَا الْحَقِّ مَعَ إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ؛ رَغَّبَهُ الْإِسْلَامُ لِفِعْلِ ذَلِكَ، وَوَعَدَهُ بِالْأَجْرِ الْعَظِيمِ؛ يَقُولُ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: "مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا؛ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ؛ فَلَهُ قِيرَاطَانِ" قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَمِنَ الْمُؤْسِفِ جِدًّا، وَالْمُحْزِنِ كَثِيرًا: أَنَّ الْكَثِيرَ لَا يَهْتَمُّ بِهَذَا الْحَقِّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ، بَيْنَمَا لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ ذَا جَاهٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ مَالٍ؛ فَإِنَّ الْمَقَابِرَ حِينَئِذٍ تَمْتَلِئُ، وَهَذَا مِمَّا يَتَنَافَى مَعَ حَقِّ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي دَعَا إِلَيْها النَّبِيُّ الْكَرِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وَمِنَ الْحُقُوقِ: تَشْمِيتُهُ إِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ؛ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ، كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، أَمَّا إِذَا لَمْ يَحْمَدِ اللهَ فَلَا يُشَمَّتْ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُذَكَّرَ؛ فَإِنْ حَمِدَ اللهَ وَجَبَ تَشْمِيتُهُ.
وَمِنَ الْحُقُوقِ: إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ؛ لِقَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ-: "وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ"، وَالدَّعْوَةُ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ كَدَعْوَةِ الْوَلِيمَةِ؛ فَحُضُورُهَا وَاجِبٌ، وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ تَرْكِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَمُسْتَحَبٌّ.
وَمِنَ الْحُقُوقِ: نَصْحُ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ سَوَاءً فِي أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ؛ فَانْصَحْ لَهُ"، قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ: أَيْ: "إِذَا اسْتَشَارَكَ فِي أَمْرٍ مَا؛ فَانْصَحْ لَهُ بِمَا تُحِبُّهُ لِنَفْسِكَ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ نَافِعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَحُثَّهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مُضِرًّا فَحَذِّرْهُ مِنْهُ، وَإِنِ احْتَوَى عَلَى نَفْعٍ وَضَرَرٍ فَأَشِرْ عَلَيْهِ بِمَا تَغْلِبُ عَلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ أَوِ الْمَفْسَدَةُ".