حاول اليهود في صيف 1929 الخروج على التقاليد الثابتة المتعلقة بصلاتهم في موقع (البراق)، فهاج العرب لأنهم فطنوا إلى ما يضمر اليهود من وراء هذه المحاولة من اعتداء على الأماكن الإسلامية المقدسة، ونشبت في القدس والخليل ويافا وصفد اضطرابات دامية بين اليهود والعرب ٍقتل فيها من اليهود عدد كبير في مدينتي الخليل وصفد.
ثم ألقت السلطات البريطانية القبض على 25 شابا فلسطينيا، واتهمتهم بقتل اليهود وحوكموا، وصدرت أحكام الإعدام عليهم جميعا، ثم خففت إلى مؤبدات للكل خلا الشهداء الثلاثة وهم: فؤاد حجازي من صفد، ومحمد جمجوم، وعطا الزير من الخليل، رحمهم الله جميعاً.
أعدم الشهداء الثلاثة في سجن عكا، يوم الثلاثاء 17-6-1930. وقد كان أول من أعدم من الشهداء فؤاد حجازي، وكان يجب أن يليه عطا الزير، ولكن محمد جمجوم زاحمه على الدور وأعدم قبله.
وقد كتب الشاعر الشعبي نوح إبراهيم مرثية "من سجن عكا وطلعت جنازه" في الشهداء الثلاثة، التي غنتها فرقة العاشقين، وما زالت تردد في فلسطين إلى يومنا هذا.
رثى الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان الشهداء الثلاثة في ملحمته "الثلاثاء الحمراء" حيث قال:
مقدمة
لما تَعرّضَ نجمُكَ المنحوسُ
وترنَّحتْ بعُرى الحبالِ رؤوسُ
ناح الأذانُ وأعولَ الناقوسُ
فالليلُ أكدرُ، والنهارُ عَبوس
طفقتْ تثورُ عواصفُ
وعواطفُ
والموتُ حيناً طائفُ
أو خاطفُ
والمعولُ الأبديُّ يمعنُ في الثرى
ليردَّهم في قلبها المتحجِّرِ
****
يومٌ أطلّ على العصور الخاليَهْ
ودعا: «أمرَّ على الورى أمثاليَهْ؟»
فأجابه يومٌ: «أجلْ أنا راويهْ
لمحاكم التفتيشِ، تلك الباغيه
ولقد شهدتُ عجائبا
وغرائبا
لكنَّ فيكَ مصائبا
ونوائبا
لم ألقَ أشباهاً لها في جَورها
فاسألْ سوايَ وكم بها من مُنكَرِ»
****
وإذا بيومٍ راسفٍ بقيودهِ
فأجاب، والتاريخُ بعضُ شهودهِ
«انظرْ إلى بِيض الرقيقِ وسُودهِ
من شاء كانوا ملكَه بنقودهِ
بشرٌ يُباع ويُشترى
فتحرَّرا
ومشى الزمانُ القهقرى
فيما أرى
فسمعتُ مَنْ منع الرقيقَ وبيعَهُ
نادى على الأحرار: يا من يشتري»
****
وإذا بيومٍ حالك الجلبابِ
مُتَرنّحٍ من نشوةِ الأوصابِ
فأجابَ: «كلاّ، دون ما بكَ ما بي أنا
في رُبى «عاليه» ضاع شبابي
وشهدتُ للسفّاح ما
أبكى دما
ويلٌ له ما أظلما
لكنّما
لم ألقَ مثلَكَ طالعاً في روعةٍ
فاذهبْ لعلكَ أنتَ يومُ المحشرِ»
****
«اليومُ» تُنكرهُ اللَّيالي الغابرهْ
وتظلّ ترمقه بعينٍ حائره
عجباً لأحكام القضاءِ الجائره
فأخفُّها أمثالُ ظلمٍ سائره
وطنٌ يسيرُ إلى الفناءْ
بلا رجاءْ
والداءُ ليس له دواءْ
إلاّ الإباءْ
إنَّ الإباءَ مناعةٌ، إنْ تشتملْ
نفسٌ عليه تَمتْ ولمّا تُقهرِ
****
الكلُّ يرجو أن يُبكِّرَ عفوُهُ
ندعو له ألا يُكدَّرَ صفوُهُ
إنْ كان هذا عطفُه وحُنوُّهُ
عاشت جلالتُه وعاش سُموّه
حمل البريدُ مُفصِّلا
ما أُجْمِلا
هلاّ اكتفيتَ تَوسُّلا
وتَسوُّلا
والموتُ في أخذ الكلامِ وردّهِ
فخذِ الحياةَ عن الطريق الأقصرِ
****
ضاق البريدُ وما تغيّرَ حالُ
والذُّلُّ بين سطورنا أشكالُ
خُسرانُنا الأرواحُ والأموالُ
وكرامةٌ - يا حسرتا - أسمال
أَوَ تُبصرون وتسألونْ
ماذا يكونْ؟
إنّ الخداعَ له فنونْ
مثلُ الجنونْ
هيهات، فالنفسُ الذليلةُ لو غدتْ
مخلوقةً من أعينٍ لم تُبصِرِ!
****
أنّى لشاكٍ صوتُه أن يُسمَعا؟
أنّى لباكٍ دمعُه أن يَنفعا؟
صخرٌ أحسَّ رجاءَنا فتصدّعا
وأتى الرجاءُ قلوبَهم فتقطّعا
لا تعجبوا، فمن الصخورْ
نبعٌ يفورْ
ولهم قلوبٌ كالقبورْ
بلا شعورْ
«لا تلتمسْ يوماً رجاءً عند منْ
جرّبتَه فوجدتَه لم يشعُرِ»
الساعات الثلاث
الساعة الأولى
أنا ساعةُ النفسِ الأبيّهْ
الفضلُ لي بالأسبقيّهْ
أنا بِكرُ ساعاتٍ ثَلا ثٍ،
كلُّها رمزُ الحميّه
بنتُ القضيّةِ إنّ لي
أثراً جليلاً في القضيّه
أثرَ السيوفِ المشرفيّـ
ـةِ، والرماحِ الزاعبيّه
أودعتُ، في مُهج الشبيـ
ـبةِ، نفحةَ الروحِ الوفيّه
لا بدَّ من يومٍ لهم
يَسقي العِدى كأسَ المنيّه
قسماً بروح «فؤادَ» تَصْـ
ـعَدُ من جوانحه زكيّه
تأتي السماءَ حفيّةً
فتحلّ جنّتَها العليّه
ما نال مرتبةَ الخُلو
دِ بغير تضحيةٍ رضيّه
عاشتْ نفوسٌ في سَبيـ
ـلِ بلادها ذهبتْ ضحيّه
الساعة الثانية
أنا ساعةُ الرجل العتيدِ
أنا ساعةُ البأسِ الشديدِ
أنا ساعةُ الموتِ الـمُشَرْ
رِفِ كلَّ ذي فعلٍ مجيد
بطلي يُحطّمُ قيدَهُ
رمزاً لتحطيم القيود
زاحمتُ مَنْ قبلي لأَ سْـ
ـبقَها إلى شرف الخلود
وقدحتُ، في مُهج الشَّبا
بِ، شرارةَ العزمِ الوطيد
هيهات يُخدَعُ بالوعو
دِ، وأنْ يُخدَّرَ بالعهود
قسماً بروح «محمّدٍ»:
تلقى الردى حلوَ الورود
قسماً بأمّكَ عند مَوْ
تِكَ، وَهْي تهتف بالنشيد
وترى العزاءَ عن ابنها
في صيته الحَسَنِ البعيد
ما نال مَن خدم البِلا
دَ أجلَّ من أجر الشهيد
الساعة الثالثة
أنا ساعةُ الرجلِ الصبورِ
أنا ساعةُ القلبِ الكبيرِ
رمزُ الثباتِ إلى النِّها
يَةِ، في الخطير من الأمور
بطلي أشدُّ على لقا
ءِ الموتِ من صُمّ الصخور
جذلانُ يرتقبُ الردى
فاعجبْ لموتٍ في سرور
يلقى الإلهَ «مُخضَّبَ الْـ
ـكَفَّينِ» في يوم النشور
صبرُ الشبابِ على المصا
بِ، وديعتي ملءَ الصدور
أنذرتُ أعداءَ البِلا
دِ بشَرّ يومٍ مُستطير
قسماً بروحكَ يا «عطا
ءُ»، وجنَّةِ الـمَلِكِ القدير
وصِغارِكَ الأشبالِ تَبْـ
ـكي الليثَ بالدمع الغزير
ما أنقذ الوطنَ المفَدْ
دَى غيرُ صبّارٍ جسور
الخاتمة
الأبطال الثلاثة
أجسادُهم في تربة الأوطانِ
أرواحُهم في جنّة الرضوانِ
وهناك لا شكوى من الطغيانِ
وهناك فيضُ العفوِ والغفران
لا ترجُ عفواً من ســواهْ
هو الإلهْ
وهو الذي ملكتْ يـداهْ
كلَّ جاهْ
جبروتُهُ فوق الذيــن يغـرّهــمْ
جبروتُهم في بَرّهــم والأبْحُرِ