(مُغلق)اللافتة على بوابة دُكانه منذ أسبوع ، وأنوار بيته لم تضيء ، وسر اختفائه عن الأنظار لم يشغل بال الكثيرين ، سألتُ عنه والكل يجيب "لا أدري لعله سافر الى قريب "
هل ترك المكان وذهب ، ولكن إلى أين ؟!
العم حسن ، الشيخ الذي يعيش في حيّنا وبيننا منذ سنين ،وظل مرتدياً حُلة الوحيد بصمته المُهيب ، وغموضه العجيب ، وكأنه غريب
استأجر منذ زمن دُكان من والدي ، وعمل به واشتراه وأصبح ملكه بعد حين
أحببته منذ الصغر ، وكنت أقضي معه أغلب وقت العصر ، ويحل المساء وأُودعه وكل شوقٌ لغدٍ يكون جميلاً برفقته ، لم يكن يتكلم كثيراً ولكنه يملك قلباً عطوفاً
سألته ذات مساء كما يسأل أغلب الأطفال ، انزعج جداً وبدا عليه الإستياء ، وتركني لوحدي وبدأ يتظاهر بأنه يوظب بعض الأغراض ، وأن وجودي يُضيّق عليه الوقت ويُشغله عن الإنجاز
حزنت ، وعندما عُدت ووجهتُ لجدتي ذات السؤال
أجابت ، إنه شيخ صبور ، عاش يقاسي لوحده أصعب الظروف ، فهو اليتيم قبل أن يرى النور ، والرضيع الذي صرخ صرخته الأولى حداداً على أمه التي زفرت أنفاسها الأخيرة وهي تسمع صرخاته الأولى
في تلك الليلة بللت وسادتي دموعاً ، فتلك القصة أدمت قلبي وأردته حزيناً ، وعقدتُ عهداً بأن أكون للعم حسن ابناً مطيعاً ، لا متطفلاً لحوحاً ، وأن أتعلم منه كيف يكون الصمت حكمة ، والكلام حكمة ، ومعاشرة الأخرين حكمة
فكنت أجالسه أكثر من والدي ، وأحكي له ما يجول في خاطري ، فكان ينصحني باختصار وفي اختصاره حكمة ، ومضت الأعوام ولا يزال رفيقي وصديقي الصدوق بئر أسراري ، وسر اعتدالي في مجريات أيامي وأحوالي بعطفه العميق ، ونصحه السديد ، وتوجيه القويم.
وأخيراً عاد بعد أن غاب أسبوعاً من الزمان ولكن!!
وجدته وقد أفرغ دُكانه ، وبالجوار شاحنة قد امتلأت بالأغراض .
-سألته ماذا يحدث هنا ياعم حسن
أجاب :
بُعت الدكان واشتريت آخر بالقرب من داري ، حيث أن للعمر أحكام يابني ، ولي قريب سيكون بجواري ولن يفارق مكاني إلى أن يتوارى جسدي في قبري .
نظرت اليه باستغراب ،ولكني تنبهت ، لن أتمادى في السؤال .
تأملني بعمق ، وأنا سارح في التفكير وقال إنه في سنك ، يشبهك كثيراً ، ستكونون حتماً كالأشقاء
حقيقة كلماته بأنه قريبه الذي لن يفارقه لم ترق لي ، وتساءلت هل هي غيرة أم ماذا؟!
ركب الشاحنة ، ولوّح مبتسماً وقال اركب
تفاجأت وتقدمت مسرعاً -لعل كل ذلك كان مُزاحاً - ولكن سمعتُ صوتا من خلفي يتسارع
إني آت الآن ياعمي
التفتُ خلفي سريعاً ، لمحته ، تقدّم نحوي مسرعا وصافحني بحرارة ، ضاحكاً مبتسماً
تأملته ، لم أستطع أن أبتسم ، كانت في حلقي غصة ، وداخلي نحوه فجوة
ركب الشاحنة ، وغادر عمي الحكيم مع فتى ساخرٍ غريب يدعوه بالقريب الذي لن يفارقه أبداً حتى يموت.
وفي اليوم التالي ، تقدم المعلم برفقته طالب جديد كان هو ذاك الفتى الساخر الغريب
عرّف بنفسه أمام الجميع بأسلوبه الكوميدي اللافت ، وتقدّم نحوي وصافحني وجلس بجواري حيث كنت أفضل المؤخرة والجلوس منفرداً عن البقية ، ولكن الوضع تغير من تلك اللحظة
بمرور الأيام والأسابيع ، لم تتغير الأحوال ، لاتزال تلك الفجوة بيننا ، وقلما تتلاقى نظراتنا ، وقلت زياراتي للعم حسن لأن ذاك الساخر الضاحك هناك
وذات صباح دق الجرس ولم يأتي ، وانتهى اليوم الدراسي وقد تغيّب ، الجميع شعروا بغيابه فقد كان وجوده في الصف يطغى عكسي تماماً .
شعرتُ بالقلق وكثير من التوتر ، توجهت مسرعا نحو دار العم حسن ، طرقتُ الباب وما من مجيب ، رآني أحد الجيران ، وأخبرني بأن العم حسن مريض ، وتم أخذه الى المستشفى هذا الصباح
توجهتُ الى المستشفى سريعا ، وقد تسارعت دقات قلبي ، وعندما وصلت ، كان العم الحسن طريح الفراش ، يئن يقاسي السكرات ، وبجواره من نعته ذات يوم "بأخيك"
قبّلت يديه وجبينه ، نظر اليّ بحنانه المعهود ونهض الآخر مسرعاً يستدعي الطبيب
وهمس لي حينها بصوته الوقور الحنون
اعتني بأخيك وكُن مُدركاً ، قد عانى كثيراً ، كُن له الأخ العضيد والصديق المعين ، والصاحب الحميم
امنحه الدفء والسلام ، والراحة والإطمئنان ، فقْد فقَدَ حنان أمه وأبيه وجميع عائلته وهو رضيع في حادث سير مريع ، وتركه الأقرباء في دار الأيتام يقاسي الوحدة وأليم الحرمان .
انها وصيتي الأخيرة اليك .