" من غسل واغتسل وبكر وابتكر "
غسلُ يوم الجمعةِ سنةٌ مؤكدةٌ، عن النبيِّ - صلى الله عليهِ وسلم - على كلّ مسلمٍ، بالغٍ، عاقلٍ، واجبةٌ عليهِ صلاة الجمعة، وهو واجبٌ على من كانت به رائحةٌ كريهةٌ، تؤذي المصلينَ؛ فتركُ الغسلِ على من كانت بهِ رائحةٌ تؤذي المصلين، تقصيرٌ في واجبٍ وهو الغسلُ، إلا أنَّ صلاتهُ تُعدّ صحيحةً.[١] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ).[٢]
يُقصدُ بالمُحتلمِ الحديثِ البالغِ، والمُرادُ بالوجوبِ تأكيد استحبابهِ، بدليلِ الحديثِ الذي رواهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ، بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الخُطْبَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _، فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ _صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ)؛[٣] فلم يترك عثمان _ رضيَ اللهُ عنهُ _ الصَّلاةَ للغُسلِ، وكذلكَ لم يأمرهُ عُمر _ رضيَ اللهُ عنهُ _ بالخُروجِ للغُسلِ قبلَ الصَّلاة ، ودلَّ ذلكَ على أنَّهما قد علِما أنَّ الأمرَ بالغُسلِ بالاختيارِ وليسَ واجباً.[٤]
من الأحاديث التي تدلُّ على استحبابِ الغُسل ما رواهُ أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ : (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَدَنَا وَأَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ).[٥]
في الحديثِ بيانٌ على أنَّ من توضَّأَ وأحسنَ الوضوءَ فقد صحَّت صلاتهُ، ونالَ الثواب المترتِّبَ على ذلك؛ فالوضوء كافٍ لصلاةِ الجمعةِ، وهذا الحديث هو من أقوى الأحاديث التي استدلَّ العُلماءُ بها على استحبابِ غُسلِ الجمعة وعدم فرضيَّته، ذلكَ لأنَّ من تركَ الاغتسالَ لا يترتَّبُ عليهِ ضررٌ، فإن تركَ الغُسلَ وفيهِ رائحةٌ كريهةٌ، وغيرَ ذلكّ مما قد يؤذي المُصلينَ، أصبحَ الغُسلُ عليهِ في هذهِ الحالةِ واجباً، وتركهُ محرَّمٌ.[٤]
آراء الفقهاء بالغسل يوم الجمعة
- القول الأول: إنَّ الغُسل واجبٌ على كلِّ من حضرَ صلاةَ الجمعةِ، ودليلهم قول أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ قَالَ: (الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ)،[٦] ويأتي الحديث بمعنى اللُّزوم المُطلق.[٧]
- القول الثاني: إنَّ غُسل يوم الجمعة مستحبٌ وليسَ واجب، وهذا رأي جمهور العلماء والفقهاء،[٨] ودليلهم ما رواهُ أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ : (مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَدَنَا وَأَنْصَتَ وَاسْتَمَعَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى، وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)،[٩] وعَنْ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ :(مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ)[١٠]
- القول الثالث: إنَّ الغُسل واجبٌ على من كان له عَرَقٌ أو رائحةٌ يتأذى منها مَن في المسجد ، والراجح من هذهِ الأقوال الثلاثة هو استحبابُ الغُسلِ لمن حضرَ صلاة الجمعة.[١١]
وقت غُسل الجمعة
وقتُ الغُسلِ يبداُ مِن فجرِ الجمعةِ إلى الزوال، والأفضلُ تقريبُ الوقتِ من ذهابِ المُصلي للصلاةِ، لأنهُ بذلكَ يتحقّقُ المقصودُ وهو اختفاءُ الرائِحةِ الكريهةِ، ويُشترط عندَ بعضِ العُلماءِ اتصالُ الغُسلِ بالذهابِ إلى المسجدِ، ولا بأس بالفصلِ اليسير الذي لا يضر[١٢]، ويرى الشافعيّة وأكثرُ أهلِ العلمِ أنَّ المُسلِمَ إذا اغتسلِ بعدَ طلوعِ الفجرِ لصلاةِ الجمعةِ، وذهبَ بعدَ اغتسالهِ مباشرةً إلى المسجدِ فقد أتى بالأفضلِ، ومن اغتسلَ للجنابةِ والجمعةِ غُسلاً واحداً ونوى لهما، أجزأهُ ذلك.[١٣]
كيفية غسل الجمعة
غسلُ الجمعةِ كغسلِ الجنابةِ إلا أنَّ على المغتسلِ أن يُبالغَ في النظافَةِ ، والتطيبِ بعد الغسلِ، فعَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قال النَّبِيُّ _ صلى الله عليه وسلم _: (لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إذَا تَكَلَّمَ الإمَامُ، إلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى)[١٤].
وعن ابن عباس قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: (وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً لِلْغُسْلِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ مَسَحَ يَدَهُ بِالأَرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ)[١٥] ودلالة هذا الحديث بيان ميمونة _ رضي اللهُ عنها _ لكيفية غسلِ النبي _ صلى اللهُ عليهِ وسلم _.