الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلى اللهُ عَليهِ وَعَلى آلِهِ، وَصحبِهِ، وَسَلَّمَ تَسليمَاً كثيراً، أما بعد:
لقدْ جَعَلَ اللهُ فَاتِحَةَ العَامِ شَهرَاً مُبارَكَاً نَجَى اللهُ فيهِ مُوسَى وَقومَهُ منْ فِرِعَونَ وَقومِهُ، فَشَرِعَ فيهِ الصَومَ؛ قالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أفضَلُ الصِّيامِ بَعدَ رَمَضَانَ شَهرُ اللهِ المُحَرَّمُ»؛ رَوَاهُ مُسلمٌ.
إنَّ مِنْ عَظيمِ فَضلِ اللهِ أنْ جَعلَ آخِرَ شَهرٍ فِي العَامِ شَهرَ عِبادَةٍ وَطَاعَةٍ، وَأولَ شَهرٍ فِي العَامِ شَهرَ عِبادةٍ وَطَاعَةٍ؛ ليفتَتِحَ المَرءُ عَامَهُ بإقبالٍ وَيَختتمهُ بِإقبالٍ، قَالَ ابنُ رَجبٍ: مَنْ صَامَ مِنْ ذِي الحِجَةِ، وَصَامَ مِنَ المُحرمِ؛ فقدْ خَتمَ السَنَةَ بِالطَاعةِ وَافتتحَهَا بِالطَاعةِ فَيرجَى أنْ تكتبَ لَهُ سَنَتهُ كُلُهَا طَاعَة.
وَمنْ فضائلِ المُحرَمِ أنَّ اللهَ اختصَهُ بِإضَافتِهِ إليهِ –سُبحَانَهُ- وَإضَافَتهُ تَدلُ عَلى شَرفِهِ وَفضلِهِ.
وَممَا اختُصَ بِهِ هَذَا الشَهرُ يَومُ عَاشُورَاءَ، وَهوَ يومٌ مُباركٌ مُعظمٌ مُنذُ القِدمٍ؛ فَاليهودُ كَانُوا يُعظِمُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ وَيصُومُونَهُ وَيتخذونَهُ عِيداً لَهُم؛ ففِي الصَحيحينِ عنْ ابنِ عَبَاسٍ -رَضِي اللهُ عنهما- قَالَ: «قَدِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَومَ عاشُوراءَ، فَقالَ:« مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟»، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ؛ فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بصِيَامِهِ»، وَلَمَّا فُرِضَ شَهْرُ رَمَضَانَ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ شَاءَ صَامَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ».
فَصَومُ عَاشُورَاءَ وَإنْ لمْ يَكُنْ وَاجِبَاً فَهوَ ممَا ينبغِي الحِرصُ عليهِ؛ فصِيامهُ يكفرُ السنَةَ المَاضيةَ؛ فقدْ سُئلَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ صِيامِ عَاشُورَاءَ؛ فقَالَ: «أحتسِبُ عَلى اللهِ أنْ يُكفرَ السَنَةَ التِي قبلَهُ»؛ رَوَاهُ مُسلمٌ. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيامَهُ؛ قَالَ ابنُ عباسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهمَا-: «مَا رَأَيْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَومٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيرِهِ إلَّا هذا اليَومَ؛ يَومَ عَاشُورَاءَ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُ.
وَكَانَ الصحَابَةُ -رَضيَ اللهُ عَنهُمُ- يُعَودُونَ صبيانَهُمُ عَلى صِيامِهِ تَربيةً لَهُمُ عَلى العِبَاداتِ، فَعنْ الرُّبيِّع بنتِ مُعوَّذٍ قَالتْ: «فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، ونَجْعَلُ لهمُ اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أحَدُهُمْ علَى الطَّعَامِ، أعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حتَّى يَكونَ عِنْدَ الإفْطَارِ»؛ رَوَاهُ البُخَارِيُ.
وَكانَ بَعضُ السَلفِ يَصُومُ عَاشُورَاءَ فِي السَفَرِ، وَكَانَ الزُهرِيُ يقولُ: رَمضَانُ لَهُ عِدَةٌ مِنْ أيامٍ أُخرَ، وَعَاشُورَاءُ يَفوتُ.
وَالسُنَةُ أنْ يَصومَ التَاسِعَ قَبْلَهُ، لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَئِنْ بَقِيتُ أو لئِنْ عِشْتُ إلى قابلٍ لأصُومَنَّ التاسِعَ»؛ رَوَاهُ مُسلمٌ. وَلا يُكرَهُ عَلى الصحيحِ إفرادُ العاشرِ بِالصومِ؛ كمَا قالَ ابنُ تيميةَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لكنَّ الأفضلَ وَالمُستحبَ أنْ يضمَ إلى العاشرِ التاسعُ.
وإنَّ نِعَمُ اللهِ وآلاءَهُ تُقابلُ باِلشُكرِ وَحُسنِ العِبادةِ؛ فَموسَى -عَليهِ السَلامُ- قَابلَ نِعْمَةَ إنجَاءِ اللهِ لهُ وَلقومِهِ وَإهلاكِ عَدُوِهِم بِالصومِ شُكرًا للهِ تعالى.
وَالمُسلمُ يَعتزُ بإيمانِهِ وَعَقيدتِهِ، فَلا يتشبهُ بِغيرِ المُسلمينَ فِي أفكارِهِمُ وَعاداتِهُمُ وَتقاليدِهِمُ المُختصةِ بِهِمُ.